لايمثِّل فوز الرئيس رجب طيب أردوغان برئاسة حزب العدالة والتنمية التركي في مؤتمره الوطني العام المنعقد نهاية الأسبوع الماضي بالعاصمة أنقرة، مجرد خطوة إجرائية روتينية، بل هو تأكيدٌ على استمرار الثقة الكبيرة التي يتمتع بها في قاعدة حزبه وشعبه، وقناعةٌ جماعية بأنه الرجل المناسب لقيادة تركيا في مرحلةٍ دولية معقدة، تُعيد تشكيل التحالفات وتفرض تحدياتٍ اقتصادية وأمنية غير مسبوقة.
الاستقرار أولًا.. لماذا اختار الحزب أردوغان؟
في وقتٍ تشهد فيه المنطقة تحولات جيوسياسية عميقة، وتواجه تركيا ضغوطًا اقتصادية بسبب تداعيات الأزمات العالمية، يبدو تجديد الثقة بأردوغان خيارًا عمليًا يعكس رغبةَ الحزب في الحفاظ على استقرار القيادة، وعدم المغامرة بمرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر. فالقائد التاريخي للحزب، والذي قاده لتحقيق انتصارات انتخابية متتالية منذ 2002، يمتلك رصيدًا من الخبرة السياسية والدبلوماسية يصعب تعويضه، خاصة في إدارة الملفات الشائكة مثل العلاقات مع الغرب، وملف الهجرة، والموقف من الأزمة الأوكرانية، فضلًا عن دوره في تعزيز الهوية الإسلامية لتركيا دون إغفال تحديث الدولة.
كما أن اختيار أردوغان -الذي جمع بين منصبي الرئاسة ورئاسة الحزب- يأتي كرسالةٍ داخلية وخارجية بأن أنقرة لن تتراجع عن سياساتها المبنية على مبدأ “القوة الوطنية”، التي حوّلت تركيا إلى لاعبٍ إقليمي لا يُمكن تجاوزه، سواء في ملفات الطاقة شرق المتوسط، أو في ليبيا وسوريا، أو في تعزيز التعاون مع العالم الإسلامي عبر منصات مثل مجلس التعاون التركي أو منظمة الدول الثماني الإسلامية.
التجديد داخل الاستمرارية.. أردوغان ليس “خيارًا تقليديًا”
رغم اتهامات المعارضة بأن حزب العدالة والتنمية “يرتهن لشخص واحد”، إلا أن المؤتمر الوطني الأخير أثبت أن التجديد لا يتناقض مع الاستمرارية. فخطاب أردوغان خلال المؤتمر لم يقتصر على استعراض الإنجازات، بل طرح رؤى مستقبلية تتعلق بخطة التصنيع المحلي، ودعم الابتكار التكنولوجي، وتوسيع الحماية الاجتماعية، ما يؤكد أن القيادة تدرك حجم التحديات، وتعمل على تطوير أدواتها.
كما أن وجود جيلٍ جديد من القيادات الشابة في صفوف الحزب -مثل وزير الصناعة مصطفى فارانك، أو وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو- يُظهر أن أردوغان ليس “حاجزًا” أمام تداول النخب، بل ضامنًا لانتقال الخبرة مع انفتاح على دماء جديدة، وهو ما ظهر جليًا في تشكيل الهيئات الحزبية بعد المؤتمر.
العدالة والتنمية.. من يحمي “مكاسب الشعب”؟
لا يُمكن فصل تجديد الثقة بأردوغان عن مخاوف القاعدة الشعبية للحزب -خاصة في المدن الصناعية والطبقات المتوسطة- من أن تؤدي أي مراجعات جذرية إلى التراجع عن السياسات الاجتماعية التي حققتها الحكومات السابقة، مثل دعم الرعاية الصحية، وتوسيع البنى التحتية، وتمكين الشركات الصغيرة. فالشعبوي الذي بنى شعبيته على خطاب “خدمة المواطن البسيط” يدرك أن التحدي الاقتصادي الحالي يتطلب موازنةً صعبة بين خفض التضخم والحفاظ على الدعم، وهو ما يُفضل جزء كبير من الأتراك أن يُوكل أمره لقيادةٍ خاضت أزمات مشابهة من قبل.
وفي موضوع ذي صلة، فقد يكون انتقاد تجديد رئاسة أردوغان للحزب مُبررًا في إطار الدعوة لتدوير النخب، لكن الواقع السياسي يقول إن تركيا -في ظلّ شرق أوسط مضطرب وأوروبا متقلبة- تحتاج إلى قيادةٍ تمتلك رصيدًا من الحنكة والصلابة، وقدرةً على تحويل التحديات إلى فرص. فالفوز ليس مجرد رقمٍ يُضاف إلى مسيرة زعيم، بل ضمانةٌ لاستمرار نموذجٍ أرادته أنقرة أن يكون جسرًا بين الإسلام والعصرنة، وبين الشرق والغرب.
عبد النبي اعنيكر