بقلم: عبد الهادي بودي
تُقدَّم تجربة مدارس الريادة اليوم كواجهة لإصلاح تعليمي طموح، غير أن ما يجري على أرض الواقع يكشف نموذجًا يعيد إنتاج مركزية قديمة بوسائل رقمية جديدة. فبدل أن يحرّر المشروع المعلم والمتعلم، يتحول القسم إلى فضاء لتنفيذ دروس جاهزة تُرسل في آخر لحظة، فيغيب الاجتهاد وتُطمس المبادرة، وتُقوَّض روح الإبداع التي ينبغي أن تشكل جوهر هذا التصور. ورغم الخطاب الرسمي الذي يروّج لثورة رقمية في التعليم، يبدو أن النموذج أقرب إلى منظومة طاعة موحّدة شبيهة بنمط الخطبة الموحدة في الشأن الديني: تعليمات مركزية، نصوص فوقية، وغياب حرية التفكير، في حين يُفرغ مفهوم الريادة من عمقه، ويتحول المعلم إلى ناقل محتوى لا صاحب رؤية.
كان جوهر المدرسة الحديثة قائمًا على متعلم فاعل يبني معرفته، ومعلم يُيسّر مسار التعلم. غير أن النموذج المعتمد يقلب هذه المعادلة حين يختزل دور المدرس في تنفيذ سيناريو رقمي مُعدّ سلفًا، ويحوّل المتعلم إلى متلقٍ سلبي. وهكذا ينتقل الفعل التربوي من بيداغوجيا الكفايات التي تراهن على التفكير والإبداع إلى بيداغوجيا التعليمات التي تقدس الامتثال وتقصي الاجتهاد وحرية اختيار الوسائل والطرائق.
وفي الوقت الذي يفترض أن يكيف المعلم تعليمه مع حاجات تلاميذه والسياق المحلي، يُفرض عليه درس موحد ينفذه كما هو، فتغيب قدرته على التعديل والاجتهاد. والنتيجة أن الأقسام تتحول إلى فضاءات عرض بلا روح، ويتحول المدرسون إلى مؤدين والتلاميذ إلى متفرجين، فتفقد الممارسة التربوية معناها الإنساني، ويُقتل التنافس والحماس لدى الطرفين معًا.
هكذا تُصبح الريادة شعارًا أكثر منها واقعًا، إذ لا تُقاس بعدد الشرائح الرقمية أو انتظام التوقيت، وإنما بمدى تمكن المدرسة من تحفيز الإبداع. غير أن الواقع يؤكد أن الهدف أصبح ضبط الإيقاع وتوحيد الدروس عوض تحرير الفكر. فكيف يُنتظر من متعلم أن يمتلك روح النقد، ومعلمه نفسه مكبل بمنطق إداري يمنعه من التفكير الحر؟
وحين تتحول الرقمنة من أداة لتحرير الممارسات إلى وسيلة للضبط والمراقبة، نفقد جوهر الإصلاح. فبدل فتح الفضاء التربوي على التشارك، تُغلق الموارد ولا يُسمح بتداولها خارج المنصة، فتتحول الرقمنة من وعد بالانفتاح إلى قيد رقابي جديد يفقد التعليم روحه الحوارية، ويختزل التعلم في عملية تقنية بلا معنى.
وحين يفقد المعلم دوره التربوي، ويجد المفتش نفسه أمام دروس نمطية مكررة، يفقد القسم ديناميته، ويتحول المتعلم إلى كائن “مبرمج على الصمت”. فالعملية تتحول من رسالة فكرية إلى وظيفة تقنية تُدير محتوى رقميًا معدًا مسبقًا، وتنتقل المدرسة من فضاء للتكوين إلى منطق التحكم. وبدل أن نسأل: كيف نُصلح التعليم؟ نُصبح أمام سؤال آخر: هل بقي ما يمكن إصلاحه وفق هذه المقاربة؟
لقد نبّه باولو فريير في “تربية المقهورين” إلى خطورة “التعليم المصرفي” الذي يودع فيه المدرس المعارف في ذهن المتعلم دون وعي أو نقد، وهذا ما يتجلى اليوم بنسخة رقمية جامدة. كما جعل جون ديوي من التعليم حياة ديمقراطية قائمة على التفاعل، في حين يختزل هذا النموذج الممارسة في الامتثال. أما جان بياجيه فقد أكّد أن التعلم الحقيقي يقوم على الاكتشاف والتجريب، غير أن الدرس الموحد يلغي هذا المسار ويستبدله بتغذية آلية تُنتج التكرار.
إن الريادة الحقيقية لا تتحقق بتوحيد المواد والشرائح، وإنما بتحرير الفكر والممارسة، وبإعادة الاعتبار لدور المعلم بوصفه شريكًا في التفكير لا مجرد منفذ. والمدرسة الرائدة هي التي تمنح المتعلم حق السؤال والبحث، وتعيد للإنسان مكانته داخل الفصل باعتباره محور العملية التعليمية لا أداة تنفيذها. فالإصلاح لا يُقاس بعدد المنصات الرقمية، وإنما بقدرتنا على استعادة العقل النقدي داخل القسم.
إن ما نعيشه اليوم لا يُشبه ثورة رقمية، وإنما يعكس تحولًا من منطق التكوين إلى منطق التحكم. وما لم تتحرر المدرسة من هوس المراقبة، ويتحرر المدرس من انتظار الدرس الجاهز، ويتحرر المتعلم من ثقافة الصمت، فلن يكون هناك معنى للريادة. فالتعليم ليس إدارة محتوى، وإنما بناء عقل حر وخلاق. وعندها فقط يمكن أن نستعيد مفهوم الريادة، وننتقل من تعليم البهرجة إلى تعليم حقيقي يكرس الإبداع ويصون اجتهاد المعلم والمتعلم.


