بعد أكثر من أربع سنوات من الصمت الحكومي والتهرب من المسؤولية، خرج رئيس الحكومة عزيز أخنوش فجأة ليعلن عن “ضرورة عقد اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد”. خطوة جاءت متأخرة ومريبة في توقيتها، وكأنها محاولة لتبييض صفحة سياسية تلطخت بسلسلة من الفضائح المرتبطة بتضارب المصالح والصفقات المشبوهة أكثر مما هي التزام فعلي بمحاربة الفساد.
فمنذ وصول أخنوش إلى رئاسة الحكومة، ظل ملف الفساد في المغرب رهينة الصمت والمماطلة، فيما توالت القرارات المثيرة للجدل التي تصب في مصلحة لوبيات المال والسلطة. آخرها الترخيص لصفقات تفاوضية بملايير الدراهم في قطاع الصحة، دون منافسة حقيقية، في وقت يتحدث فيه الشارع عن صرف ملايين الدراهم على مقربين من الحزب الحاكم وأسماء من دائرة أخنوش الانتخابية. هذه الوقائع وحدها كافية لتجعل شعار “النزاهة” مجرد ورق يُرفع لتغطية واقع تغيب فيه الشفافية وتتضارب فيه المصالح بشكل مفضوح.
من الصعب أن نصدق أن من جمّد اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد لأكثر من أربع سنوات أصبح فجأة حريصًا على تفعيلها. خصوصًا أن رئيس الحكومة لم يتحرك إلا بعد أن أصبحت الضغوط الشعبية، الممثلة في حركات جديدة مثل “جيل زيد”، تُطالب بوضوح بإنهاء منطق الريع وتغول المصالح الشخصية داخل الدولة. فهل هو إذن وعي متأخر، أم مجرد محاولة للالتفاف على مطالب الشارع؟
جمعية “ترانسبرانسي المغرب” كانت سبّاقة في كشف المستور، حين أعلنت تجميد عضويتها في اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، متهمة الحكومة بانعدام الإرادة السياسية الحقيقية. أما محمد بشير الراشدي، الرئيس السابق للهيئة الوطنية للنزاهة، فكشف أن رئاسة الحكومة تجاهلت مرارًا دعواته لعقد اجتماعات اللجنة منذ سنة 2017، رغم أن القانون يفرض اجتماعين على الأقل في السنة.
الآن، ومع اقتراب نهاية الولاية الحكومية، يبدو أن أخنوش يحاول ترميم صورته المتآكلة بخطاب إنشائي حول “النزاهة والشفافية”. لكن الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها هي أن الفساد لا يُحارب بالشعارات ولا باللجان المجمدة، بل بالمحاسبة وربط المسؤولية بالنتائج. وما لم يُفعّل هذا المبدأ بشكل واضح وصارم، فكل مبادرة من هذا النوع تبقى مجرد دعاية سياسية هدفها كسب الوقت وتخفيف الضغط الشعبي.
إن المرحلة الراهنة تتطلب تحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية، وفتح ملفات تضارب المصالح بكل جرأة، وإخضاع كل من تلاحقه شبهات المحاباة أو استغلال النفوذ للمساءلة الشفافة أمام القانون والرأي العام. فلا بناء لدولة حديثة دون ربط فعلي للمسؤولية بالمحاسبة، ولا مستقبل للإصلاح في ظل استمرار نفس الممارسات التي عطلت الثقة وضربت في عمق العدالة والإنصاف.


